من فقد الثقة بربه... اضطربت نفسه
شر ما مُنيت به النفوس يأسٌ يميت القلوب، وقنوطٌ تظلم به الدنيا وتتحطَّم معه الآمال، إن في هذه الدنيا مصائب ورزايا ومحناً وبلايا، آلامٌ تضيق بها النفوس، ومزعجاتٌ تورث الخوف والجزع، كم ترى من شاكٍ؟ وكم تسمع من لوامٍ؟ يشكو علة وسقماً، أو حاجة وفقراً، متبرمٌ من زوجه وولده، لوامٌ لأهله وعشيرته، ترى من كسدت تجارته وبارت صناعته، وآخر قد ضاع جهده ولم يدرك مرامه.
إن من العجائب: أن ترى أشباه الرجال قد اتخمت بطونها شبعاً ورياً، وترى أولي عزمٍ ينامون على الطوى، إن فيها من يتعاظم ويتعالى حتى يتطاول على مقام الربوبية والألوهية، وفيها من يستشهدون دفاعاً عن الحق وأهل الحق.
تلك هي الدنيا، تضحك وتبكي، وتجمع وتشتت، شدةٌ ورخاءٌ، وسراءٌ وضراءٌ، دار غرور لمن اغترَّ بها، وهي عبرةٌ لمن اعتبر بها، إنها دار صدقٍ لمن صدقها، وميدان عملٍ لمن عمل فيها: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَافَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)، تتنوع فيها الابتلاءات وألوان الفتن، ويبتلى أهلها بالمتضادات والمتباينات: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)؛ ولكن إذا استحكمت الأزمات، وترادفت الضوائق، فلا مخرج إلا بالإيمان بالله، والتوكل عليه، وحسن الصبر، ذلك هو النور العاصم من التخبط، وهو الدرع الواقي من اليأس والقنوط، إن من آمن بالله، وعرف حقيقة دنياه، وطَّن نفسه على احتمال المكاره وواجه الأعباء مهما ثقلت، وحسن ظنه بربه، وأمَّل فيه جميل العواقب وكريم العوائد، كل ذلك بقلبٍ لا تشوبه ريبةٌ، ونفسٍ لا تزعزعها كربةٌ، مستيقناً أن بوادر الصفو لا بد آتيةٌ: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).
إن أثقال الحياة وشواغلها لا يطيق حملها الضعاف المهازيل، لا ينهض بأعبائها إلا العمالقة الصابرون أولو العزم من الناس أصحاب الهمم العالية :"أَشَدُّ النَّاسِ بَلاَء الأَنْبِيَاءَ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، يُبْتَلَى المرء عَلَى حَسَبِ دِينِهِ" حديثٌ أخرجه الترمذي وغيره، وقال الترمذي حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، وأخرج أحمد وأبو يعلى في مسنديهما والطبراني في الكبير والأوسط من معاجمه عن رسول الله قال: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ فلَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِ، ابْتَلاهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ أو مَالِهِ أو وَلَدِهِ، ثُمَّ صَبَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَبْلُغَ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" كم من محنة في طيها منحٌ ورحماتٌ؟.
هاهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام يضرب المثل في الرضا عن مولاه والصبر على ما يلقاه صبراً جميلاً، بعده صبرٌ أجمل مع الأخذ بالأسباب والقوة في الأمل ...
تحياتي